///////////

نبي الله أيوب عليه السلام

الأربعاء، 16 مارس 2022

[قصة نبي الله أيوب] من كتاب البداية والنهاية الجزء الاول لابن كثير



البداية والنهاية/الجزء الأول/قصة نبي الله أيوب
 
 
1- قصة نبي الله أيوب 
 
 
قال ابن إسحاق: كان رجلًا من الروم وهو أيوب بن موص بن زارح بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم الخليل.
وقال غيره: هو أيوب بن موص بن رعويل بن العيص بن إسحاق بن يعقوب. وقيل غير ذلك في نسبه. 
 
 
وحكى ابن عساكر أن أمه بنت لوط عليه السلام. وقيل كان أبوه ممن آمن بإبراهيم عليه السلام يوم ألقي في النار فلم تحرقه.
والمشهور الأول، لأنه من ذرية إبراهيم كما قررنا عند قوله تعالى: { وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ... } الآيات [الأنعام: 84] .
من أن الصحيح أن الضمير عائد على إبراهيم دون نوح عليهما السلام.
وهو من الأنبياء المنصوص على الإيحاء إليهم في سورة النساء في قوله تعالى: { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ } الآية [النساء: 163] .
فالصحيح أنه من سلالة العيص بن إسحاق، وامرأته قيل: اسمها ليا بنت يعقوب، وقيل: رحمه بنت أفرائيم، وقيل: منشا بن يوسف بن يعقوب، وهذا أشهر فلهذا ذكرناه هاهنا. ثم نعطف بذكر أنبياء بني إسرائيل بعد ذكر قصته إن شاء الله وبه الثقة وعليه التكلان.
قال الله تعالى: { وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ } [الأنبياء: 83-84] .
وقال تعالى في سورة ص: { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ * ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ * وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } [41-44] .
وروى ابن عساكر من طريق الكلبي أنه قال: أول نبي بعث إدريس، ثم نوح، ثم إبراهيم، ثم إسماعيل، ثم إسحاق، ثم يعقوب، ثم يوسف، ثم لوط، ثم هود، ثم صالح، ثم شعيب، ثم موسى وهرون، ثم إلياس، ثم اليسع، ثم عرفي بن سويلخ بن أفرائيم بن يوسف بن يعقوب، ثم يونس بن متي من بني يعقوب، ثم أيوب بن زراح بن آموص بن لبفرز بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم.
وفي بعض هذا الترتيب نظر، فإن هودًا وصالحًا المشهور أنهما بعد نوح، وقبل إبراهيم، والله أعلم.
قال علماء التفسير والتاريخ وغيرهم: كان أيوب رجلًا كثير المال من سائر صنوفه وأنواعه، من الأنعام، والعبيد، والمواشي، والأراضي المتسعة بأرض البثينة من أرض حوران.
وحكى ابن عساكر أنها كلها كانت له، وكان له أولاد وأهلون كثير، فسلب من ذلك جميعه، وابتلى في جسده بأنواع البلاء، ولم يبق منه عضو سليم سوى قلبه ولسانه، يذكر الله عز وجل بها، وهو في ذلك كله صابر محتسب ذاكر لله عز وجل في ليله ونهاره، وصباحه ومسائه.
وطال مرضه حتى عافه الجليس، وأوحش منه الأنيس، وأخرج من بلده، وألقي على مزبلة خارجها، وانقطع عنه الناس، ولم يبق أحد يحنو عليه سوى زوجته، كانت ترعى له حقه، وتعرف قديم إحسانه إليها، وشفقته عليها، فكانت تتردد إليه، فتصلح من شأنه، وتعينه على قضاء حاجته، وتقوم بمصلحته.
وضُعف حالها، وقل ما لها، حتى كانت تخدم الناس بالأجر، لتطعمه وتقود بأوده رضي الله عنها وأرضاها، وهي صابرة معه على ما حل بهما من فراق المال والولد، وما يختص بها من المصيبة بالزوج، وضيق ذات اليد، وخدمة الناس بعد السعادة، والنعمة، والخدمة، والحرمة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله ﷺ قال:
« أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه ».
ولم يزد هذا كله أيوب عليه السلام إلا صبرًا واحتسابًا وحمدًا وشكرًا، حتى أن المثل ليضرب بصبره عليه السلام، ويضرب المثل أيضًا بما حصل له من أنواع البلايا.
وقد روي عن وهب بن منبه وغيره من علماء بني إسرائيل، في قصة أيوب، خبر طويل في كيفية ذهاب ماله، وولده، وبلائه في جسده، والله أعلم بصحته.
وعن مجاهد أنه قال: كان أيوب عليه السلام أول من أصابه الجدري، وقد اختلفوا في مدة بلواه على أقوال؛ فزعم وهب أنه ابتلي ثلاث سنين لا تزيد ولا تنقص. وقال أنس: ابتلي سبع سنين وأشهرًا، وألقى على مزبلة لبني إسرائيل تختلف الدواب في جسده، حتى فرَّج الله عنه، وعظم له الأجر، وأحسن الثناء عليه.
وقال حميد: مكث في بلواه ثمانية عشرة سنة. وقال السدي: تساقط لحمه حتى لم يبق إلا العظم والعصب، فكانت امرأته تأتيه بالرماد تفرشه تحته، فلما طال عليها قالت: يا أيوب لو دعوت ربك لفرج عنك، فقال: قد عشت سبعين سنة صحيحًا، فهو قليل لله أن أصبر له سبعين سنة، فجزعت من هذا الكلام، وكانت تخدم الناس بالأجر وتطعم أيوب عليه السلام.
ثم إن الناس لم يكونوا يستخدمونها لعلمهم أنها امرأة أيوب، خوفًا أن ينالهم من بلائه، أو تعديهم بمخالطته، فلما لم تجد أحدًا يستخدمها عمدت فباعت لبعض بنات الأشراف إحدى ضفيرتيها، بطعام طيب كثير، فأتت به أيوب، فقال: من أين لك هذا؟ وأنكره.
فقالت: خدمت به أناسًا فلما كان الغد لم تجد أحدًا، فباعت الضفيرة الأخرى بطعام فأتته به فأنكره أيضًا، وحلف لا يأكله حتى تخبره من أين لها هذا الطعام، فكشفت عن رأسها خمارها، فلما رأى رأسها محلوقًا قال في دعائه: { أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } [الأنبياء: 83] .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو سلمة، حدثنا جرير بن حازم، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، قال: كان لأيوب أخوان، فجاءا يومًا فلم يستطيعا أن يدنوا منه من ريحه، فقاما من بعيد، فقال أحدهما لصاحبه: لو كان الله علم من أيوب خيرًا ما ابتلاه بهذا، فجزع أيوب من قولهما جزعًا لم يجزع من شيء قط.
قال: اللهم إن كنت تعلم أني لم أبت ليلة قط شبعانًا وأنا أعلم مكان جائع فصدقني، فصدق من السماء وهما يسمعان.
ثم قال: اللهم إن كنت تعلم أني لم يكن لي قميصان قط وأنا أعلم مكان عار، فصدقني فصدق من السماء وهما يسمعان.
ثم قال: اللهم بعزتك وخر ساجدًا، فقال: اللهم بعزتك لا أرفع رأسي أبدًا حتى تكشف عني، فما رفع رأسه حتى كشف عنه.
وقال ابن أبي حاتم وابن جرير جميعًا: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، أنبئنا ابن وهب، أخبرني نافع بن يزيد عن عقيل، عن الزهري، عن أنس بن مالك أن النبي ﷺ قال:
« إن نبي الله أيوب لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه كانا من أخص إخوانه له، كانا يغدوان إليه ويروحان، فقال أحدهما لصاحبه: يعلم الله لقد أذنب أيوب ذنبًا ما أذنبه أحد من العالمين.
قال له صاحبه: وما ذاك؟
قال: منذ ثماني عشر سنة لم يرحمه ربه فكشف ما به، فلما راحا إليه لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له.
فقال أيوب: لا أدري ما تقول غير أن الله عز وجل يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران الله فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما، كراهية أن يذكر الله إلا في حق ».
قال: « وكان يخرج في حاجته فإذا قضاها أمسكت امرأته بيده حتى يرجع، فلما كان ذات يوم أبطأت عليه، فأوحى الله إلى أيوب في مكانه أن { ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ } [ص: 42] فاستبطأته فتلقته تنظر، وأقبل عليها قد أذهب الله ما به من البلاء وهو على أحسن ما كان، فلما رأته قالت: أي بارك الله فيك هل رأيت نبي الله هذا المبتلى، فوالله على ذلك ما رأيت رجلًا أشبه به منك إذ كان صحيحًا، قال: فإني أنا هو ».
قال: « وكان له أندران: أندر للقمح وأندر للشعير، فبعث الله سحابتين، فلما كانت إحداهما على أندر القمح أفرغت فيه الذهب حتى فاض، وأفرغت الأخرى في أندر الشعير الورق حتى فاض ».
هذا لفظ ابن جرير، وهكذا رواه بتمامه ابن حبان في (صحيحه) عن محمد بن الحسن بن قتيبة، عن حرملة، عن ابن وهب به. وهذا غريب رفعه جدًا، والأشبه أن يكون موقوفًا.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، ثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، أنبأنا علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس قال: وألبسه الله حلة من الجنة فتنحى أيوب وجلس في ناحية، وجاءت امرأته فلم تعرفه.
فقالت: يا عبد الله هذا المبتلى الذي كان ههنا لعل الكلاب ذهبت به أو الذئاب، وجعلت تكلمه ساعة.
قال: ولعل أنا أيوب.
قالت: أتسخر مني يا عبد الله؟
فقال: ويحك أنا أيوب، قد رد الله عليّ جسدي.
قال ابن عباس: ورد الله عليه ماله وولده بأعيانهم ومثلهم معهم.
وقال وهب بن منبه: أوحى الله إليه: قد رددت عليك أهلك، ومالك، ومثلهم معهم فاغتسل بهذا الماء فإن فيه شفاءك، وقرب عن صحابتك قربانًا، واستغفر لهم فإنهم قد عصوني فيك. رواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن أبي حاتم: ثنا أبو زرعة، حدثنا عمرو بن مرزوق، حدثنا همام، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال:
« لما عافى الله أيوب عليه السلام أمطر عليه جرادًا من ذهب، فجعل يأخذ بيده ويجعل في ثوبه قال: فقيل له يا أيوب أما تشبع؟ قال: يا رب ومن يشبع من رحمتك ».
وهكذا رواه الإمام أحمد، عن أبي داود الطيالسي، وعبد الصمد عن همام عن قتادة به.
ورواه ابن حبان في (صحيحه)، عن عبد الله بن محمد الأزدي، عن إسحاق بن راهويه، عن عبد الصمد به. ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب، وهو على شرط الصحيح، فالله أعلم.
وقال الإمام أحمد: ثنا سفيان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة: أرسل على أيوب رجل من جراد من ذهب فجعل يقبضها في ثوبه، فقيل: يا أيوب ألم يكفك ما أعطيناك؟ قال: أي رب ومن يستغني عن فضلك.
هذا موقوف وقد روي عن أبي هريرة من وجه أخر مرفوعًا.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة قال: قال رسول الله ﷺ:
« بينما أيوب يغتسل عريانًا خرّ عليه جراد من ذهب، فجعل أيوب يحثي في ثوبه فناداه ربه عز وجل: يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى.
قال: بلى يا رب، ولكن لا غنى لي عن بركتك ». رواه البخاري من حديث عبد الرزاق به.
وقوله: { ارْكُضْ بِرِجْلِكَ } أي: اضرب الأرض برجلك فامتثل ما أمر به، فأنبع الله له عينًا باردة الماء، وأمر أن يغتسل فيها ويشرب منها، فأذهب الله عنه ما كان يجده من الألم والأذى والسقم والمرض، الذي كان في جسده ظاهرًا وباطنًا، وأبدله الله بعد ذلك كله صحة ظاهرة وباطنة، وجمالًا تامًا، ومالًا كثيرًا حتى صب له من المال صبًا مطرًا عظيمًا جرادًا من ذهب.
وأخلف الله له أهله كما قال تعالى: { وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ } [الأنبياء: 84] فقيل: أحياهم الله بأعيانهم، وقيل: آجره فيمن سلف وعوضه عنهم في الدنيا بدلهم وجمع له شمله بكلهم في الدار الآخرة.
وقوله: { رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا } أي: رفعنا عنه شدته، وكشفنا ما به من ضر رحمة منا به، ورأفة وإحسانًا.
{ وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ } أي: تذكرة لمن ابتلي في جسده أو ماله أو ولده، فله أسوة بنبي الله أيوب حيث ابتلاه الله بما هو أعظم من ذلك فصبر واحتسب، حتى فرج الله عنه.
ومن فهم من هذا اسم امرأته فقال: هي رحمة من هذه الآية، فقد أبعد النجعة، وأغرق النزع.
وقال الضحاك عن ابن عباس: رد الله إليها شبابها، وزادها حتى ولدت له ستة وعشرون ولدًا ذكرًا.
وعاش أيوب بعد ذلك سبعين سنة بأرض الروم على دين الحنيفية، ثم غيروا بعده دين إبراهيم.
وقوله: { وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } [ص: 44] هذه رخصة من الله تعالى لعبده ورسوله أيوب عليه السلام، فيما كان من حلفه ليضربن امرأته مائة سوط فقيل: حلفه ذلك لبيعها ضفائرها. وقيل: لأنه عرضها الشيطان في صورة طبيب يصف لها دواء لأيوب، فأتته فأخبرته فعرف أنه الشيطان، فحلف ليضربها مائة سوط.
فلما عافاه الله عز وجل أفتاه أن يأخذ ضغثًا، وهو كالعثكال الذي يجمع الشماريخ فيجمعها كلها ويضربها به ضربة واحدة، ويكون هذا منزلا منزلة الضرب بمائة سوط، ويبر ولا يحنث، وهذا من الفرج والمخرج لمن اتقى الله وأطاعه، ولا سيما في حق امرأته الصابرة المحتسبة المكابدة الصديقة، البارة الراشدة، رضي الله عنها.
ولهذا عقب الله هذه الرخصة وعللها بقوله: { إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ }.
وقد استعمل كثير من الفقهاء هذه الرخصة في باب الإيمان والنذور، وتوسع آخرون فيها حتى وضعوا كتاب الحيل في الخلاص من الإيمان، وصدوره بهذه الآية الكريمة وأتوا فيه بأشياء من العجائب والغرائب، وسنذكر طرفًا من ذلك في كتاب الأحكام عند الوصول إليه إن شاء الله تعالى.
وقد ذكر ابن جرير وغيره من علماء التاريخ: أن أيوب عليه السلام لما توفي كان عمره ثلاثًا وتسعين سنة، وقيل: إنه عاش أكثر من ذلك، وقد روى ليث عن مجاهد ما معناه: أن الله يحتج يوم القيامة بسليمان عليه السلام على الأغنياء، وبيوسف عليه السلام على الأرقاء، وبأيوب عليه السلام على أهل البلاء، رواه ابن عساكر بمعناه.
وأنه أوصى إلى ولده حومل، وقام بالأمر بعده ولده بشر بن أيوب، وهو الذي يزعم كثير من الناس أنه ذو الكفل فالله أعلم. ومات ابنه هذا وكان نبيًا فيما يزعمون، وكان عمره من السنين خمسا وسبعين، ولنذكر ههنا قصة ذي الكفل إذ قال بعضهم إنه ابن أيوب عليها السلام.
========
قصة ذي الكفل الذي زعم قوم أنه ابن أيوب
قال الله تعالى بعد قصة أيوب في سورة الأنبياء: { وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ } [85-86] .
وقال تعالى بعد قصة أيوب أيضًا في سورة ص: { وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ * وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ } [ص: 45-48] .
فالظاهر من ذكره في القرآن العظيم بالثناء عليه، مقرونًا مع هؤلاء السادة الأنبياء أنه نبي عليه من ربه الصلاة والسلام، وهذا هو المشهور. وقد زعم آخرون أنه لم يكن نبيًا وإنما كان رجلًا صالحًا، وحكمًا مقسطًا عادلًا، وتوقف ابن جرير في ذلك، فالله أعلم.
وروى ابن جرير، وابن أبي نجيح عن مجاهد: أنه لم يكن نبيًا وإنما كان رجلًا صالحًا، وكان قد تكفل لبني قومه أن يكفيه أمرهم، ويقضي بينهم بالعدل، فسمى ذا الكفل.
وروى ابن جرير، وابن أبي حاتم، من طريق داود بن أبي هند، عن مجاهد أنه قال: لما كبر اليسع قال: لو أني استخلفت رجلًا على الناس يعمل عليهم في حياتي، حتى أنظر كيف يعمل.
فجمع الناس فقال: من يتقبل لي بثلاث استخلفه: يصوم النهار، ويقوم الليل، ولا يغضب.
قال: فقام رجل تزدريه العين، فقال: أنا.
فقال: أنت تصوم النهار، وتقوم الليل، ولا تغضب؟
قال: نعم.
قال: فردهم ذلك اليوم، وقال مثلها اليوم الآخر.
فسكت الناس وقام ذلك الرجل فقال: أنا. فاستخلفه. قال: فجعل إبليس يقول للشياطين: عليكم بفلان فأعياهم ذلك، فقال: دعوني وإياه، فأتاه في صورة شيخ كبير فقير، وأتاه حين أخذ مضجعه للقائلة، وكان لا ينام الليل والنهار، إلا تلك النومة فدق الباب، فقال: من هذا؟
قال: شيخ كبير مظلوم.
قال: فقام ففتح الباب، فجعل يقص عليه فقال: إن بيني وبين قومي خصومة، وإنهم ظلموني وفعلوا بي وفعلوا، حتى حضر الرواح وذهبت القائلة، وقال: إذا رحت فأتني آخذ لك بحقك. فانطلق وراح.
فكان في مجلسه فجعل ينظر هل يرى الشيخ فلم يره، فقام يتبعه، فلما كان الغد جعل يقضي بين الناس وينتظره فلا يراه، فلما رجع إلى القائلة فأخذ مضجعه، أتاه فدق الباب فقال من هذا؟
فقال: الشيخ الكبير المظلوم، ففتح له فقال: ألم أقل لك إذا قعدت فأتني؟
فقال: إنهم أخبث قوم، إذا عرفوا أنك قاعد قالوا نحن نعطيك حقك، وإذا قمت جحدوني.
قال: فانطلق فإذا رحت فأتني، قال ففاتته القائلة فراح فجعل ينتظر فلا يراه، وشق عليه النعاس فقال لبعض أهله: لا تدعن أحدًا يقرب هذا الباب حتى أنام، فإني قد شق علي النوم، فلما كان تلك الساعة جاء فقال له الرجل: وراءك وراءك، فقال: إني قد أتيته أمس، فذكرت له أمري.
فقال: لا والله لقد أمرنا أن لا ندع أحدًا يقربه، فلما أعياه نظر فرأى كوة في البيت فتسور منها، فإذا هو في البيت، وإذا هو يدق الباب من داخل، قال: فاستيقظ الرجل فقال: يا فلان ألم آمرك قال: أما من قبلي والله فلم تؤت فانظر من أين أتيت؟
قال: فقام إلى الباب فإذا هو مغلق كما أغلقه، وإذا الرجل معه في البيت فعرفه، فقال: أعدو الله؟
قال: نعم أعييتني في كل شيء ففعلت ما ترى لأغضبنك، فعصمك الله مني، فسماه الله ذا الكفل لأنه تكفل بأمر فوفى به.
وقد روى ابن أبي حاتم أيضًا، عن ابن عباس قريبًا من هذا السياق.
وهكذا روي عن عبد الله بن الحارث، ومحمد بن قيس، وابن حجيرة الأكبر، وغيرهم من السلف نحو هذا.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو الجماهر، أنبأنا سعيد بن بشير، حدثنا قتادة، عن كنانة بن الأخنس قال: سمعت الأشعري - يعني أبا موسى رضي الله عنه - وهو على هذا المنبر يقول: ما كان ذو الكفل نبيًا ولكن كان رجل صالح، يصلي كل يوم مائة صلاة، فتكفل له ذو الكفل من بعده يصلي كل يوم مائة صلاة فسمى ذا الكفل.
ورواه ابن جرير من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة قال: قال أبو موسى الأشعري فذكره منقطعًا.
فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا أسباط بن محمد، حدثنا الأعمش، عن عبد الله بن عبد الله، عن سعد مولى طلحة، عن ابن عمر قال: سمعت من رسول الله ﷺ حديثًا لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين - حتى عد سبع مرار - ولكن قد سمعته أكثر من ذلك قال:
« كان الكفل من بني إسرائيل لا يتورع من ذنب عمله، فأتته مرأة فأعطاها ستين دينارًا على أن يطأها، فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته أرعدت وبكت فقال: لها ما يبكيك أأكرهتك؟
قالت: لا، ولكن هذا عمل لم أعمله قط، وإنما حملتني عليه الحاجة، قال: فتفعلين هذا ولم تفعليه قط، ثم نزل فقال: اذهبي بالدنانير لك.
ثم قال: والله لا يعصي الله الكفل أبدًا فمات من ليلته فأصبح مكتوبًا على بابه قد غفر الله لكفل ». ورواه الترمذي من حديث الأعمش به وقال حسن.
وذكر أن بعضهم رواه فوقفه على ابن عمر فهو حديث غريب جدًا، وفي إسناده نظر فإن سعدًا هذا قال أبو حاتم: لا أعرفه إلا بحديث واحد، ووثقه ابن حبان، ولم يرو عنه سوى عبد الله بن عبد الله الرازي هذا، فالله أعلم.
========
ما وقع من الأمور العجيبة في حياة إسرائيل
فمن ذلك قصة يوسف بن راحيل، وقد أنزل الله عز وجل في شأنه وما كان من أمره سورة من القرآن العظيم، ليتدبر ما فيها من الحكم والمواعظ، والآداب، والأمر الحكيم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: { الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ } [يوسف: 1-3]
قد تكلمنا على الحروف المقطعة في أول تفسير سورة البقرة، فمن أراد تحقيقه فلينظره ثم، وتكلمنا على هذه السورة مستقصى في موضعها من التفسير، ونحن نذكر ههنا نبذًا مما هناك، على وجه الإيجاز والنجاز.
وجملة القول في هذا المقام، أنه تعالى يمدح كتابه العظيم الذي أنزله على عبده ورسوله الكريم، بلسان عربي فصيح، بين واضح جلي، يفهمه كل عاقل ذكي زكي.
فهو أشرف كتاب نزل من السماء، أنزله أشرف الملائكة على أشرف الخلق في أشرف زمان ومكان، بأفصح لغة وأظهر بيان، فإن كان السياق في الأخبار الماضية أو الآتية ذكر أحسنها وأبينها، وأظهر الحق مما اختلف الناس فيه، ودمغ الباطل وزيفه ورده.
وإن كان في الأوامر والنواهي، فأعدل الشرائع وأوضح المناهج، وأبين حكمًا وأعدل حكمًا فهو كما قال تعالى: { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا } [الأنعام: 115] يعني صدقًا في الأخبار، عدلًا في الأوامر والنواهي.
ولهذا قال تعالى: { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ } [يوسف: 3] أي: بالنسبة إلى ما أوحي إليك فيه.
كما قال تعالى: { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ } [الشورى: 52-53] .
وقال تعالى: { كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا * مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا * خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا } [طه: 99-101] .
يعني من أعرض عن هذا القرآن واتبع غيره من الكتب فإنه يناله هذا الوعيد، كما قال في الحديث المروي في المسند، والترمذي، عن أمير المؤمنين على مرفوعًا وموقوفًا:
« من ابتغى الهدى في غيره أضله الله ».
وقال الإمام أحمد: حدثنا سريج بن النعمان، حدثنا هشام، أنبأنا خالد، عن الشعبي، عن جابر، أن عمر بن الخطاب أتى النبي ﷺ بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، فقرأه على النبي ﷺ، قال فغضب وقال:
« أتتهوكون فيها يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبرونكم بحق فتكذبونه، أو بباطل فتصدقونه، والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حيًا ما وسعه إلا أن يتبعني ». إسناد صحيح.
ورواه أحمد من وجه آخر، عن عمرو فيه: فقال رسول الله ﷺ:
« والذي نفسي بيده لو أصبح فيكم موسى ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم، إنكم حظي من الأمم وأنا حظكم من النبيين ».
وقد أوردت طرق هذا الحديث وألفاظه في أول سورة يوسف، وفي بعضها أن رسول الله ﷺ خطب الناس فقال في خطبته:
« أيها الناس إني قد أوتيت جوامع الكلم وخواتيمه، واختصر لي اختصارًا، ولقد أتيتكم بها بيضاء نقية، فلا تتهوكوا ولا يغرنكم المتهوكون »، ثم أمر بتلك الصحيفة فمحيت حرفًا حرفًا.
{ إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ * قَالَ يَابُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [يوسف: 4-6] .
قد قدمنا أن يعقوب كان له من البنين اثنا عشر ولدًا ذكرًا، وسميناهم وإليهم تنسب أسباط بني إسرائيل كلهم، وكان أشرفهم وأجلهم وأعظمهم يوسف عليه السلام، وقد ذهب طائفة من العلماء إلى أنه لم يكن فيهم نبي غيره، وباقي إخوته لم يوحَ إليهم، وظاهر ما ذكر من فعالهم ومقالهم في هذه القصة يدل على هذا القول.
ومن استدل على نبوتهم بقوله: { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ } [البقرة: 136] وزعم أن هؤلاء هم الأسباط، فليس استدلاله بقوي لأن المراد بالأسباط شعوب بني إسرائيل، وما كان يوجد فيهم من الأنبياء الذين ينزل عليهم الوحي من السماء، والله أعلم.
ومما يؤيد أن يوسف عليه السلام هو المختص من بين إخوته بالرسالة والنبوة، أنه نص على واحد من إخوته سواه، فدل على ما ذكرناه، ويستأنس لهذا بما قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا عبد الرحمن عن عبد الله بن دينار، عن أبيه، عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ قال:
« الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم ».
انفرد به البخاري، فرواه عن عبد الله بن محمد، وعبدة عن عبد الصمد بن عبد الوارث به.
وقد ذكرنا طرقه في قصة إبراهيم بما أغنى عن إعادته ههنا ولله الحمد والمنة.
قال المفسرون وغيرهم: رأى يوسف عليه السلام وهو صغير قبل أن يحتلم كأن { أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا } وهم إشارة إلى بقية أخوته { وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ } هما عبارة عن أبويه قد سجدوا له، فهاله ذلك.
فلما استيقظ قصها على أبيه، فعرف أبوه أنه سينال منزلة عالية، ورفعة عظيمة في الدنيا والآخرة، بحيث يخضع له أبواه وإخوته فيها، فأمره بكتمانها وأن لا يقصها على إخوته كيلا يحسدوه، ويبغوا له الغوائل، ويكيدوه بأنواع الحيل والمكر.
وهذا يدل على ما ذكرناه، ولهذا جاء في بعض الآثار: استعينوا على قضاء حوائجكم بكتمانها، فإن كل ذي نعمة محسود.
وعند أهل الكتاب أنه قصها على أبيه وأخوته معًا، وهو غلط منهم.
{ وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ } أي: وكما أراك هذه الرؤيا العظيمة فإذا كتمتها { يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ } أي: يخصك بأنواع اللطف والرحمة.
{ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ } أي: يفهمك من معاني الكلام وتعبير المنام ما لا يفهمه غيرك.
{ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ } أي: بالوحي إليك.
{ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ } أي: بسببك ويحصل لهم بك خير الدنيا والآخرة.
{ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ } أي: ينعم عليك ويحسن إليك بالنبوة كما أعطاها أباك يعقوب، وجدك إسحاق، ووالد جدك إبراهيم الخليل.
{ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } كما قال تعالى: { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [الأنعام: 124] .
لهذا قال رسول الله ﷺ لما سئل أي الناس أكرم؟
قال: « يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله ».
وقد روى ابن جرير، وابن أبي حاتم في تفسيريهما، وأبو يعلى، والبزار في (مسنديهما) من حديث الحكم بن ظهير - وقد ضعفه الأئمة - عن السدي، عن عبد الرحمن بن سابط، عن جابر قال: أتى النبي ﷺ رجل من اليهود يقال له بستانة اليهودي، فقال:
يا محمد أخبرني عن الكواكب التي رآها يوسف أنها ساجدة له ما أسماؤها.
قال فسكت النبي ﷺ فلم يجبه بشيء، ونزل جبريل عليه السلام بأسمائها.
قال: فبعث إليه رسول الله فقال: « هل أنت مؤمن إن أخبرتك بأسمائها؟ ».
قال: نعم.
فقال: « هي جريان، والطارق، والديال، وذو الكتفان، وقابس، ووثاب، وعمردان، والفيلق، والمصبح، والضروح، وذو الفرع، و الضياء، والنور ».
فقال اليهودي: أي والله إنها لأسماؤها.
وعند أبي يعلى: فلما قصها على أبيه قال: هذا أمر مشتت يجمعه الله، والشمس أبوه، والقمر أمه.
{ لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ * إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ } [يوسف: 7-10] .
ينبه تعالى على ما في هذه القصة من الآيات والحكم، والدلالات والمواعظ والبينات، ثم ذكر حسد إخوة يوسف له على محبة أبيه له ولأخيه، يعنون شقيقه لأمه بنيامين أكثر منهم، وهم عصبة أي: جماعة يقولون: فكنا نحن أحق بالمحبة من هذين.
{ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } أي: بتقديمه حبهما علينا. ثم اشتوروا فيما بينهم في قتل يوسف، أو إبعاده إلى أرض لا يرجع منها، ليخلو لهم وجه أبيه أي لتتمحض محبته لهم، وتتوفر عليهم وأضمروا التوبة بعد ذلك، فلما تمالؤا على ذلك، وتوافقوا عليه.
{ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ } قال مجاهد: هو شمعون.
وقال السدي: هو يهودا.
وقال قتادة، ومحمد بن إسحق: هو أكبرهم روبيل.
{ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ } أي: المارة من المسافرين.
{ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ } ما تقولون لا محالة، فليكن هذا الذي أقول لكم فهو أقرب حالًا من قتله أو نفيه وتغريبه، فأجمعوا رأيهم على هذا فعند ذلك قالوا:
{ قَالُوا يَاأَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ * أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ * قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ * قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ } [يوسف: 11-14] .
طلبوا من أبيهم أن يرسل معهم أخاهم يوسف، وأظهروا له أنهم يريدون أن يرعى معهم، وأن يلعب وينبسط، وقد أضمروا له ما الله به عليم، فأجابهم الشيخ عليه من الله أفضل الصلاة والتسليم: يا بني يشق علي أن أفارقه ساعة من النهار، ومع هذا أخشى أن تشتغلوا في لعبكم وما أنتم فيه، فيأتي الذئب فيأكله، ولا يقدر على دفعه عنه لصغره وغفلتكم عنه
{ قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ } أي: لئن عدا عليه الذئب فأكله من بيننا، أو اشتغلنا عنه حتى وقع هذا ونحن جماعة، إنا إذا لخاسرون أي: عاجزون هالكون.
وعند أهل الكتاب أنه أرسله وراءهم يتبعهم، فضل عن الطريق حتى أرشده رجل إليهم. وهذا أيضًا من غلطهم وخطئهم في التعريب، فإن يعقوب عليه السلام كان أحرص عليه من أن يبعثه معهم، فكيف يبعثه وحده.
{ فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * وَجَاؤوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ * قَالُوا يَاأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ * وَجَاؤوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } [يوسف: 15-18] .
لم يزالوا بأبيهم حتى بعثه معهم، فما كان إلا أن غابوا عن عينيه، فجعلوا يشتمونه ويهينونه بالفعال والمقال، وأجمعوا على إلقائه في غيابت الجب أي: في قعره على راعوفته، وهي الصخرة التي تكون في وسطه، يقف عليها المائح - وهو الذي ينزل ليملي الدلاء إذا قل الماء - والذي يرفعها بالحبل يسمى الماتح.
فلما ألقوه فيه، أوحى الله إليه أنه لا بدَّ لك من فرج ومخرج من هذه الشدة التي أنت فيها، ولتخبرن إخوتك بصنيعهم هذا، في حال أنت فيها عزيز وهم محتاجون إليك، خائفون منك { وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ }.
قال مجاهد وقتادة: وهم لا يشعرون بإيحاء الله إليه ذلك.
وعن ابن عباس: وهم لا يشعرون أي: لتخبرنهم بأمرهم هذا في حال لا يعرفونك فيها. رواه ابن جرير عنه.
فلما وضعوه فيه ورجعوا عنه، أخذوا قميصه فلطخوه بشيء من دم، ورجعوا إلى أبيهم عشاء وهم يبكون أي على أخيهم. ولهذا قال بعض السلف: لا يغرنك بكاء المتظلم، فرب ظالم وهو باك.
وذكر بكاء إخوة يوسف، وقد جاءوا أباهم عشاء يبكون، أي في ظلمة الليل ليكون أمشى لغدرهم لا قَالُوا يَاأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا } أي ثيابنا { فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ } أي: في غيبتنا عنه في استباقنا.
وقولهم { وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ } أي: وما أنت بمصدق لنا في الذي أخبرناك من أكل الذئب له، ولو كنا غير متهمين عندك، فكيف وأنت تتهمنا في هذا، فإنك خشيت أن يأكله الذئب، وضمنا لك أن لا يأكله لكثرتنا حوله، فصرنا غير مصدقين عندك، فمعذور أنت في عدم تصديقك لنا والحالة هذه.
{ وَجَاؤوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ } أي: مكذوب مفتعل، لأنهم عمدوا إلى سخلة ذبحوها، فأخذوا من دمها فوضعوه على قميصه، ليوهموا أنه أكله الذئب، قالوا ونسوا أن يخرقوه، وآفة الكذب النسيان.
ولما ظهرت عليهم علائم الريبة لم يرُج صنيعهم على أبيهم، فإنه كان يفهم عداوتهم له، وحسدهم إياه على محبته له من بينهم أكثر منهم، لما كان يتوسم فيه من الجلالة والمهابة التي كانت عليه في صغره، لما يريد الله أن يخصه به من نبوته.
ولما راودوه عن أخذه، فبمجرد ما أخذوه أعدموه، وغيبوه عن عينيه، جاؤا وهم يتباكون وعلى ما تمالئوا عليه يتواطئون، ولهذا { قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ }.
وعند أهل الكتاب: أن روبيل أشار بوضعه في الجب، ليأخذه من حيث لا يشعرون، ويرده إلى أبيه، فغافلوه وباعوه لتلك القافلة. فلما جاء روبيل من آخر النار ليُخرج يوسف لم يجده، فصاح وشق ثيابه، وعمد أولئك إلى جدي فذبحوه، ولطخوا من دمه جبة يوسف، فلما علم يعقوب شق ثيابه، ولبس مئزرًا أسود وحزن على ابنه أيامًا كثيرة، وهذه الركاكة جاءت من خطئهم في التعبير والتصوير.
و قال تعالى: { وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَابُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ * وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ * وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } [يوسف: 19-22] .
يخبر تعالى عن قصة يوسف حين وضع في الجب:
أنه جلس ينتظر فرج الله ولطفه به، فجاءت سيارة أي: مسافرون.
قال أهل الكتاب: كانت بضاعتهم من الفستق، والصنوبر، والبطم، قاصدين ديار مصر من الشام، فأرسلوا بعضهم ليستقوا من ذلك البئر، فلما أدلى أحدهم دلوه تعلق فيه يوسف، فلما رآه ذلك الرجل:
{ قَالَ يَابُشْرَى } أي: يا بشارتي
{ هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً } أي: أوهموا أنه معهم غلام من جملة متجرهم
{ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } أي: هو عالم بما تمالأ عليه أخوته، وبما يسره واجدوه من أنه بضاعة لهم، ومع هذا لا يغيره تعالى لما له في ذلك من الحكمة العظيمة، والقدر السابق، والرحمة بأهل مصر بما يجري الله على يدي هذا الغلام، الذي يدخلها في صورة أسير رقيق، ثم بعد هذا يملكه أزمة الأمور، وينفعهم الله به في دنياهم وأخراهم بما لا يحد ولا يوصف.
ولما استشعر إخوة يوسف بأخذ السيارة له لحقوهم وقالوا هذا غلامنا أبق منا، فاشتروه منهم بثمن بخس أي: قليل نزر. وقيل: هو الزيف.
{ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ } قال ابن مسعود، وابن عباس، ونوف اليكالي، والسدي، وقتادة، وعطية العوفي: باعوه بعشرين درهمًا، اقتسموها درهمين درهمين.
وقال مجاهد: اثنان وعشرون درهمًا.
وقال عكرمة، ومحمد بن إسحاق: أربعون درهمًا فالله أعلم.
{ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ } أي: أحسني إليه.
{ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا } وهذا من لطف الله به، ورحمته وإحسانه إليه، بما يريد أن يؤهله له ويعطيه من خيري الدنيا والآخرة.
قالوا: وكان الذي اشتراه من أهل مصر عزيزها، وهو الوزير بها الذي تكون الخزائن مسلمة إليه.
قال ابن إسحاق: واسمه اطفير بن روحيب، قال: وكان ملك مصر يومئذ الريان بن الوليد، رجل من العماليق، قال: واسم امرأة العزيز: راعيل بنت رعاييل.
وقال غيره: كان اسمها زليخا، والظاهر أنه لقبها. وقيل: فكا بنت ينوس. رواه الثعلبي عن أبي هشام الرفاعي.
وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن السائب، عن أبي صالح، عن ابن عباس: كان اسم الذي باعه بمصر يعني الذي جلبه إليها: مالك بن ذعر بن نويب بن عفقا بن مديان بن إبراهيم، فالله أعلم.
وقال ابن إسحاق عن أبي عبيدة، عن ابن مسعود قال:
أفرس الناس ثلاثة:
عزيز مصر حين قال لامرأته: أكرمي مثواه.
والمرأة التي قالت لأبيها عن موسى: { يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ } [القصص: 26] .
وأبو بكر الصديق حين استخلف عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.
ثم قيل: اشتراه العزيز بعشرين دينارًا.
وقيل: بوزنه مسكًا، ووزنه حريرًا، ووزنه ورقًا، فالله أعلم.
وقوله: { وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ } أي: وكما قيضنا هذا العزيز، وامرأته يحسنان إليه، ويعتنيان به مكنا له في أرض مصر
{ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ } أي: فهمها، وتعبير الرؤيا من ذلك.
{ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ } أي: إذا أراد شيئًا، فإنه يقيض له أسبابًا وأمورًا لا يهتدي إليها العباد، ولهذا قال تعالى: { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ }.
{ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } فدل على أن هذا كله كان وهو قبل بلوغ الأشد، وهو حد الأربعين الذي يوحي الله فيه إلى عباده النبيين عليهم الصلاة والسلام من رب العالمين.
وقد اختلفوا في مدة العمر الذي هو بلوغ الأشد:
فقال مالك، وربيعة، وزيد بن أسلم، والشعبي: هو الحلم.
وقال سعيد بن جبير: ثماني عشرة سنة.
وقال الضحاك: عشرون سنة.
وقال عكرمة: خمس وعشرون سنة.
وقال السدي: ثلاثون سنة.
وقال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة: ثلاث وثلاثون سنة.
وقال الحسن: أربعون سنة، ويشهد له قوله تعالى: { إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً } [الأحقاف: 15] .
{ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ * وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ } [يوسف: 23-29] .
يذكر تعالى ما كان من مراودة امرأة العزيز ليوسف عليه السلام عن نفسه، وطلبها منه ما لا يليق بحاله ومقامه، وهي في غاية الجمال، والمال، والمنصب، والشباب، وكيف غلقت الأبواب عليها وعليه وتهيأت له، وتصنعت، ولبست أحسن ثيابها، وأفخر لباسها، وهي مع هذا كله امرأة الوزير.
قال ابن إسحاق: وبنت أخت الملك الريان بن الوليد صاحب مصر، وهذا كله مع أن يوسف عليه السلام شاب بديع الجمال والبهاء، إلا أنه نبي من سلالة الأنبياء، فعصمه ربه عن الفحشاء، وحماه من مكر النساء، فهو سيد السادة النجباء السبعة الأتقياء، المذكورين في (الصحيحين) عن خاتم الأنبياء في قوله عليه الصلاة والسلام من رب الأرض والسماء:
« سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه، ورجل معلق قلبه بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله ».
والمقصود: أنها دعته إليها، وحرصت على ذلك أشد الحرص، فقال:
{ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي } يعني: زوجها صاحب المنزل سيدي
{ أَحْسَنَ مَثْوَايَ } أي: أحسن إليَّ، وأكرم مقامي عنده
{ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } وقد تكلمنا على قوله
{ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } بما فيه كفاية ومقنع في التفسير.
وأكثر أقوال المفسرين ههنا متلقى من كتب أهل الكتاب، فالإعراض عنه أولى بنا. والذي يجب أن يعتقد أن الله تعالى عصمه، وبرأه، ونزهه عن الفاحشة، وحماه عنها، وصانه منها، ولهذا قال تعالى:
{ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ * وَاسْتَبَقَا الْبَابَ } أي: هرب منها طالبًا إلى الباب ليخرج منه، فرارًا منها، فاتبعته في أثره
{ وَأَلْفَيَا } أي: وجدا { سَيِّدَهَا } أي: زوجها لدى الباب، فبدرته بالكلام وحرضته عليه
{ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } اتهمته وهي المتهمة، وبرأت عرضها، ونزهت ساحتها، فلهذا قال يوسف عليه السلام:
{ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي } احتاج إلى أن يقول الحق عند الحاجة
{ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا } قيل: كان صغيرًا في المهد قاله ابن عباس.
وروي عن أبي هريرة، وهلال بن يساف، والحسن البصري، وسعيد بن جبير، والضحاك، واختاره ابن جرير.
وروي فيه حديثًا مرفوعًا عن ابن عباس، ووقفه غيره عنه.
وقيل: كان رجلًا قريبًا إلى أطفير بعلها. وقيل: قريبًا إليها.
وممن قال إنه كان رجلًا: ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، والحسن، وقتادة، والسدي، ومحمد بن إسحاق، وزيد بن أسلم، فقال:
{ إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ } أي: لأنه يكون قد راودها فدافعته حتى قدت مقدم قميصه.
{ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ } أي: لأنه يكون قد هرب منها فاتبعته، وتعلقت فيه فانشق قميصه لذلك وكذلك كان.
ولهذا قال تعالى: { فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ } أي: هذا الذي جرى من مكركن، أنت راودته عن نفسه. ثم اتهمته بالباطل، ثم ضرب بعلها عن هذا صفحًا فقال:
{ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا } أي: لا تذكره لأحد، لأن كتمان مثل هذه الأمور هو الأليق والأحسن، وأمرها بالاستغفار لذنبها الذي صدر منها، والتوبة إلى ربها، فإن العبد إذا تاب إلى الله تاب الله عليه.
وأهل مصر وإن كانوا يعبدون الأصنام إلا أنهم يعلمون أن الذي يغفر الذنوب، ويؤاخذ بها هو الله وحده لا شريك له في ذلك. ولهذا قال لها بعلها، وعذرها من بعض الوجوه، لأنها رأت ما لا صبر لها على مثله، إلا أنه عفيف، نزيه، بريء العرض، سليم الناحية، فقال: { وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ }.
{ إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكًَا وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ * قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [يوسف: 30-34] .
يذكر تعالى ما كان من قبل نساء المدينة، من نساء الأمراء، وبنات الكبراء في الطعن على امرأة العزيز، وعيبها، والتشنيع عليها في مراودتها فتاها، وحبها الشديد له، وهو لا يساوي هذا، لأنه مولى من الموالي وليس مثله أهلًا لهذا، ولهذا قلن:
{ إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } أي: في وضعها الشيء في غير محله.
{ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ } أي: بتشنيعهن عليها، والتنقص لها، والإشارة إليها بالعيب والمذمة بحب مولاها، وعشق فتاها، فأظهرن ذمًا، وهي معذورة في نفس الأمر، فلهذا أحبت أن تبسط عذرها عندهن، وتبين أن هذا الفتى ليس كما حسبن، ولا من قبيل ما لديهن.
فأرسلت إليهن فجمعتهن في منزلها، واعتدت لهن ضيافة مثلهن، وأحضرت في جملة ذلك شيئا مما يقطع بالسكاكين، كالأترج ونحوه، وأتت كل واحدة منهن سكينًا، وكانت قد هيأت يوسف عليه السلام، وألبسته أحسن الثياب، وهو في غاية طراوة الشباب، وأمرته بالخروج عليهن بهذه الحالة، فخرج وهو أحسن من البدر لا محالة
{ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ } أي: أعظمنه، وأجللنه وهبنه، وما ظنن أن يكون مثل هذا في بني آدم.
وبهرهن حسنه حتى اشتغلن عن أنفسهن، وجعلن يحززن في أيديهن بتلك السكاكين، ولا يشعرن بالجراح: { وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ }.
وقد جاء في حديث الإسراء:
« فمررت بيوسف وإذا هو قد أعطي شطر الحسن ».
قال السهيلي وغيره من الأئمة: معناه أنه كان على النصف من حسن آدم عليه السلام، لأن الله تعالى خلق آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، فكان في غاية نهايات الحسن البشري، ولهذا يدخل أهل الجنة الجنة على طول آدم وحسنه، ويوسف كان على النصف من حسن آدم، ولم يكن بينهما أحسن منهما، كما أنه لم تكن أنثى بعد حواء أشبه بها من سارة امرأة الخليل عليه السلام.
قال ابن مسعود: وكان وجه يوسف مثل البرق، وكان إذا أتته امرأة لحاجة غطى وجهه.
وقال غيره: كان في الغالب مبرقعًا لئلا يراه الناس، ولهذا لما قام عذر امرأة العزيز في محبتها لهذا المعنى المذكور، وجرى لهن وعليهن ما جرى، من تقطيع أيديهن بجراح السكاكين، وما ركبهن من المهابة والدهش عند رؤيته ومعاينته: { قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ }.
ثم مدحته بالعصمة التامة فقالت: { وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ } أي: امتنع. { وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ }.
وكان بقية النساء حرضنه على السمع والطاعة لسيدته، فأبى أشد الإباء، ونأى لأنه من سلالة الأنبياء، ودعا فقال في دعائه لرب العالمين:
{ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ } يعني: إن وكلتني إلى نفسي، فليس لي من نفسي إلا العجز والضعف، ولا أملك لنفسي نفعًا ولا ضرًا إلا ما شاء الله، فأنا ضعيف الا ما قويتني، وعصمتني، وحفظتني، وحطني بحولك وقوتك. ولهذا قال تعالى: { فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }.
{ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ * وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ * يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ آرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ } [يوسف: 35-41] .
يذكر تعالى عن العزيز وامرأته أنهم بدا لهم أي: ظهر لهم من الرأي بعدما علموا براءة يوسف أن يسجنوه إلى وقت، ليكون ذلك أقل لكلام الناس في تلك القضية، وأخمد لأمرها، وليظهروا أنه راودها عن نفسها، فسجن بسببها، فسجنوه ظلمًا وعدوانًا، وكان هذا مما قدر الله له.
ومن جملة ما عصمه به فإنه أبعد له عن معاشرتهم، ومخالطتهم، ومن ههنا استنبط بعض الصوفية ما حكاه عنهم الشافعي أن من العصمة أن لا تجد.
قال الله: { وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ } قيل: كان أحدهما ساقي الملك واسمه فيما قيل: بنو، والآخر خبازه يعني: الذي يلي طعامه، وهو الذي يقول له الترك: الجاشنكير. واسمه فيما قيل: مجلث، كان الملك قد اتهمهما في بعض الأمور فسجنهما.
فلما رأيا يوسف في السجن أعجبهما سمته، وهديه، ودله، وطريقته، وقوله، وفعله، وكثرة عبادته ربه، وإحسانه إلى خلقه، فرأى كل واحد منهما رؤيا تناسبه.
قال أهل التفسير: رأيا في ليلة واحدة:
أما الساقي فرأى كأن ثلاث قضبان من حبلة وقد أورقت وأينعت عناقيد العنب، فأخذها فاعتصرها في كأس الملك وسقاه.
ورأى الخباز على رأسه ثلاث سلال من خبز، وضواري الطيور تأكل من السل الأعلى، فقصاها عليه وطلبا منه أن يعبرهما لهما.
وقالا { إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } فأخبرهما أنه عليم بتعبيرها خبير بأمرها.
و { قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا } قيل: معناه مهما رأيتما من حلم، فإني أعبره لكم قبل وقوعه، فيكون كما أقول.
وقيل: معناه إني أخبركما بما يأتيكما من الطعام قبل مجيئه، حلوًا أو حامضًا كما قال عيسى: { وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } [آل عمران: 49] .
وقال لهما: إن هذا من تعليم الله إياي لأني مؤمن به، موحد له، متبع ملة آبائي الكرام إبراهيم الخليل، واسحاق، ويعقوب { مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا } أي: بأن هدانا لهذا.
{ وَعَلَى النَّاسِ } أي: بأن أمرنا أن ندعوهم إليه، ونرشدهم، وندلهم عليه، وهو في فطرهم مركوز وفي جبلتهم مغروز. { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ }.
ثم دعاهم إلى التوحيد، وذم عبادة ما سوى الله عز وجل، وصغر أمر الأوثان، وحقرها، وضعف أمرها، فقال:
{ يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ آرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ } أي: هو المتصرف في خلقه الفعال لما يريد، الذي يهدي من يشاء، ويضل من يشاء.
{ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ } أي: وحده لا شريك له.
و { ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ } أي: المستقيم، والصراط القويم.
{ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } أي: فهم لا يهتدون إليه مع وضوحه وظهوره، وكانت دعوته لهما في هذه الحال في غاية الكمال، لأن نفوسهما معظمة له، منبعثة على تلقي ما يقول بالقبول، فناسب أن يدعوهما إلى ما هو الأنفع لهما مما سألا عنه وطلبا منه.
ثم لما قام بما وجب عليه، وأرشد إلى ما أرشد إليه، قال: { يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا } قالوا: وهو الساقي.
{ وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ } قالوا: وهو الخباز.
{ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ } أي: وقع هذا لا محالة، ووجب كونه على حالة، ولهذا جاء في الحديث:
« الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر، فإذا عبرت وقعت ».
وقد روي عن ابن مسعود، ومجاهد، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أنهما قالا: لم نر شيئًا.
فقال لهما: { قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ }
{ وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ } [يوسف: 42] .
يخبر تعالى أن يوسف عليه السلام قال للذي ظنه ناجيًا منهما، وهو الساقي { اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ } يعني اذكر أمري، وما أنا فيه من السجن بغير جرم عند الملك. وفي هذا دليل على جواز السعي في الأسباب، ولا ينافي ذلك التوكل على رب الأرباب.
وقوله: { فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ } أي: فأنسى الناجي منهما الشيطان أن يذكر ما وصاه به يوسف عليه السلام.
قاله مجاهد، ومحمد بن إسحاق، وغير واحد وهو الصواب، وهو منصوص أهل الكتاب.
(فلبث يوسف في السجن بضع سنين) والبضع: ما بين الثلاث إلى التسع. وقيل: إلى السبع. وقيل: إلى الخمس. وقيل: ما دون العشرة. حكاها الثعلبي.
ويقال: بضع نسوة، وبضع رجال. ومنع الفراء استعمال البضع فيما دون العشر، قال: وإنما يقال نيف.
وقال الله تعالى: { فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ }
وقال تعالى: { فِي بِضْعِ سِنِينَ } [الروم: 2] وهذا رد لقوله.
قال الفراء: ويقال بضعة عشر، وبعضة وعشرون إلى التسعين، ولا يقال بضع ومائة، وبضع وألف، وخالف الجوهري فيما زاد على بضعة عشر، فمنع أن يقال: بضعة وعشرون إلى تسعين.
وفي الصحيح: « الإيمان بضع وستون » - وفي رواية: وسبعون شعبة - أعلاها: قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ».
ومن قال إن الضمير في قوله: { فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ } عائد على يوسف، فقد ضعف ما قاله، وإن كان قد روي عن ابن عباس، وعكرمة، والحديث الذي رواه ابن جرير في هذا الموضع ضعيف من كل وجه. تفرد بإسناده إبراهيم بن يزيد الخوري المكي وهو متروك.
ومرسل الحسن، وقتادة لا يقبل، ولا ههنا بطريق الأولى والأخرى، والله أعلم.
فأما قول ابن حبان في (صحيحه) عند ذكر السبب الذي من أجله لبث يوسف في السجن ما لبث، أخبرنا الفضل بن الحباب الجمحي، ثنا مسدد بن مسرهد، ثنا خالد بن عبد الله، ثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ:
« رحم الله يوسف لولا الكلمة التي قالها: اذكرني عند ربك ما لبث في السجن ما لبث.
ورحم الله لوطًا أن كان ليأوي إلى ركن شديد، إذ قال لقومه: لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد قال: فما بعث الله نبيًا بعده إلا في ثروة من قومه ».
فإنه حديث منكر من هذا الوجه، ومحمد بن عمرو بن علقمة، له أشياء ينفرد بها، وفيها نكارة، وهذه اللفظة من أنكرها وأشدها، والذي في (الصحيحين) يشهد بغلطها، والله أعلم.
{ وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ * قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ * وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ * يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ * قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ } [يوسف: 43-49] .
هذا كان من جملة أسباب خروج يوسف عليه السلام من السجن على وجه الاحترام والإكرام، وذلك أن ملك مصر وهو الريان بن الوليد بن ثروان بن اراشه بن فاران بن عمرو بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح، رأى هذه الرؤيا.
قال أهل الكتاب: رأى كأنه على حافة نهر، وكأنه قد خرج منه سبع بقرات سمان، فجعلن يرتعن في روضة هناك، فخرجت سبع هزال ضعاف من ذلك النهر، فرتعن معهن، ثم ملن عليهن، فأكلنهن فاستيقظ مذعورًا.
ثم نام فرأى سبع سنبلات خضر في قصبة واحدة، وإذا سبع أخر دقاق يابسات فأكلنهن، فاستيقظ مذعورًا، فلما قصَّها على ملئه وقومه لم يكن فيهم من يحسن تعبيرها بل { قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ } أي: أخلاط أحلام من الليل لعلها لا تعبير لها ومع هذا فلا خبرة لنا بذلك.
ولهذا قالوا: { وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ } فعند ذلك تذكر الناجي منهما الذي وصاه يوسف بأن يذكره عند ربه فنسيه إلى حينه هذا. وذلك عن تقدير الله عز وجل وله الحكمة في ذلك، فلما سمع رؤيا الملك ورأى عجز الناس عن تعبيرها، تذكر أمر يوسف، وما كان أوصاه به من التذكار.
ولها قال تعالى: { وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ } أي: تذكر.
{ بَعْدَ أُمَّةٍ } أي: بعد مدة من الزمان، وهو بضع سنين.
وقرأ بعضهم كما حكي عن ابن عباس، وعكرمة، والضحاك { وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ } أي: بعد نسيان.
وقرأها مجاهد: (بَعْدَ أُمْة) بإسكان الميم، وهو النسيان أيضًا، يقال: أمه الرجل يأمه أمهًا، وأمهًا إذا نسي.
قال الشاعر:
أمهت وكنت لا أنسى حديثًا * كذاك الدهر يزري بالعقول
فقال لقومه وللملك: { أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ } أي: فأرسلوني إلى يوسف.
فجاءه فقال: { يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ } وعند أهل الكتاب أن الملك لما ذكره له الساقي إستدعاه إلى حضرته، وقصَّ عليه ما رآه، ففسره له، وهذا غلط.
والصواب ما قصَّه الله في كتابه القرآن، لا ما عربه هؤلاء الجهلة الثيران، من قراى وربان.
فبذل يوسف عليه السلام ما عنده من العلم بلا تأخر، ولا شرط، ولا طلب الخروج سريعًا، بل أجابهم إلى ما سألوا، وعبر لهم ما كان من منام الملك الدال على وقوع سبع سنين من الخصب، ويعقبها سبع جدب.
{ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ } يعني: يأتيهم الغيث، والخصب، والرفاهية.
{ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ } يعني: ما كانوا يعصرونه من الأقصاب، والأعناب، والزيتون، والسمسم، وغيرها، فعبر لهم، وعلى الخير دلهم، وأرشدهم إلى ما يعتمدونه في حالتي خصبهم، وجدبهم، وما يفعلونه من ادخار حبوب سني الخصب في السبع الأول في سنبله، إلا ما يرصد بسبب الأكل ومن تقليل البذر في سني الجدب في السبع الثانية، إذ الغالب على الظن أنه لا يرد البذر من الحقل، وهذا يدل على كمال العلم، وكمال الرأي والفهم.
{ وفَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ * قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ * وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ } [يوسف: 50-53] .
لما أحاط الملك علمًا بكمال علم يوسف عليه الصلاة والسلام، وتمام عقله، ورأيه السديد وفهمه، أمر بإحضاره إلى حضرته، ليكون من جملة خاصته، فلما جاءه الرسول بذلك، أحب أن لا يخرج حتى يتبين لكل أحد أنه حبس ظلمًا وعدوانًا، وأنه بريء الساحة مما نسبوه إليه بهتانًا.
قال: { ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ } يعني: الملك
{ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ } قيل: معناه إن سيدي العزيز يعلم براءتي مما نسب إلي، أي فأمر الملك فليسألهن كيف كان امتناعي الشديد عند مراودتهن إياي، وحثهن لي على الأمر الذي ليس برشيد ولا سديد.
فلما سئلن عن ذلك، أعترفن بما وقع من الأمر، وما كان منه من الأمر الحميد { قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ } فعند ذلك { قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ } وهي: زليخا { الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ } أي: ظهر، وتبين، ووضح، والحق أحق أن يتبع { أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } أي: فيما يقوله من أنه بريء، وأنه لم يراودني، وأنه حبس ظلمًا، وعدوانًا، وزورًا، وبهتانًا.
وقوله: { ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ } قيل: إنه من كلام يوسف، أي: إنما طلبت تحقيق هذا ليعلم العزيز أني لم أخنه بظهر الغيب.
وقيل: إنه من تمام كلام زليخا، أي: إنما اعترفت بهذا، ليعلم زوجي أني لم أخنه في نفس الأمر، وإنما كان مراده لم يقع معها فعل فاحشة، وهذا القول هو الذي نصره طائفة كثيرة من أئمة المتأخرين وغيرهم، ولم يحك ابن جرير وابن أبي حاتم سوى الأول.
{ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ } قيل: إنه من كلام يوسف. وقيل: من كلام زليخا، وهو مفرع على القولين الأولين. وكونه من تمام كلام زليخا أظهر، وأنسب، وأقوى، والله أعلم.
{ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ * وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } [يوسف: 54-57] .
لما ظهر للملك براءة عرضه، ونزاهة ساحته عما كانوا أظهروا عنه، مما نسبوه إليه، قال:
{ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي } أي: أجعله من خاصتي، ومن أكابر دولتي، ومن أعيان حاشيتي، فلما كلمه وسمع مقاله وتبين حاله
{ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ } أي: ذو مكانة وأمانة
{ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } طلب أن يوليه النظر فيما يتعلق بالإهراء، لما يتوقع من حصول الخلل فيما بعد مضى سبع سنى الخصب لينظر فيها بما يرضي الله في خلقه من الاحتياط لهم، والرفق بهم.
وأخبر الملك إنه حفيظ أي: قوي على حفظ ما لديه، أمين عليه، عليم بضبط الأشياء، ومصالح الإهراء، وفي هذا دليل على جواز طلب الولاية لمن علم من نفسه الأمانة والكفاءة.
وعند أهل الكتاب: أن فرعون عظَّم يوسف عليه السلام جدًا، وسلَّطه على جميع أرض مصر، وألبسه خاتمه، وألبسه الحرير، وطوقه الذهب، وحمله على مركبه الثاني، ونودي بين يديه: أنت رب ومسلط، وقال له: لست أعظم منك إلا بالكرسي، قالوا: وكان يوسف إذ ذاك ابن ثلاثين سنة، وزوجه امرأة عظيمة الشأن.
وحكى الثعلبي أنه عزل قطفير عن وظيفته وولاها يوسف. وقيل: إنه لما مات، زوَّجه امرأته زليخا، فوجدها عذراء، لأن زوجها كان لا يأتي النساء، فولدت ليوسف عليه السلام رجلين وهما: أفرايم ومنشا، قال: واستوثق ليوسف ملك مصر، وعمل فيهم بالعدل، فأحبه الرجال والنساء.
وحكي أن يوسف كان يوم دخل على الملك عمره ثلاثين سنة، وأن الملك خاطبه بسبعين لغة، وكل ذلك يجاوبه بكل لغة منها، فأعجبه ذلك مع حداثة سنه فالله أعلم.
قال الله تعالى: { وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ } أي: بعد السجن، والضيق، والحصر، صار مطلق الركاب بديار مصر.
{ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ } أي: أين شاء حلَّ منها مكرمًا محسودًا معظمًا.
{ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } أي: هذا كله من جزاء الله، وثوابه للمؤمن، مع ما يدخر له في آخرته من الخير الجزيل والثواب الجميل.
ولهذا قال: { وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ }
ويقال: إن أطفير زوج زليخا كان قد مات، فولاه الملك مكانه، وزوَّجه امرأته زليخا، فكان وزير صدق.
وذكر محمد بن إسحاق أن صاحب مصر - الوليد بن الريان - أسلم على يدي يوسف عليه السلام فالله أعلم.
وقد قال بعضهم:
وراء مضيق الخوف متسع الأمن * وأول مفروح به غاية الحزن
فلا تيأسن فالله ملك يوسفًا * خزائنه بعد الخلاص من السجن
{ وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ * وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ * فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ * قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ * وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [يوسف: 58-62] .
يخبر تعالى عن قدوم إخوة يوسف عليه السلام إلى الديار المصرية، يمتارون طعامًا، وذلك بعد إتيان سُني الجدب وعمومها على سائر البلاد والعباد.
وكان يوسف عليه السلام إذ ذاك الحاكم في أمور الديار المصرية، دينًا ودنيا، فلما دخلوا عليه عرفهم، ولم يعرفوه، لأنهم لم يخطر ببالهم ما صار إليه يوسف عليه السلام من المكانة والعظمة، فلهذا عرفهم وهم له منكرون.
وعند أهل الكتاب: أنهم لما قدموا عليه سجدوا له فعرفهم، وأراد أن لا يعرفوه بأغلظ لهم في القول، وقال: أنتم جواسيس جئتم لنا لتأخذوا خير بلادي، فقالوا: معاذ الله إنما جئنا نمتار لقومنا من الجهد والجوع الذي أصابنا، ونحن بنو أب واحد من كنعان، ونحن اثنا عشر رجلًا، ذهب منا واحد، وصغيرنا عند أبينا.
فقال: لا بد أن أستعلم أمركم، وعندهم أنه حبسهم ثلاثة أيام، ثم أخرجهم، واحتبس شمعون عنده ليأتوه بالأخ الآخر، وفي بعض هذا نظر.
قال الله تعالى: { وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ } أي: أعطاهم من الميرة ما جرت به عادته في إعطاء كل إنسان حمل بعير لا يزيده عليه.
{ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ } وكان قد سألهم عن حالهم، وكم هم، فقالوا كنا اثني عشر رجلًا، فذهب منا واحد وبقي شقيقه عند أبينا فقال: إذا قدمتم من العام المقبل فأتوني به معكم.
{ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ } أي: قد أحسنت نزلكم وقراكم فرغبهم ليأتوه به ثم رهبهم إن لم يأتوه به.
قال: { فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ } أي: فلست أعطيكم ميرة ولا أقربكم بالكلية عكس ما أسدى إليهم أولًا، فاجتهد في إحضاره معهم، ليبل شوقه منه بالترغيب والترهيب.
{ قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ } أي: سنجتهد في مجيئه معنا، وإتيانه إليك بكل ممكن.
{ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ } أي: وإنا لقادرون على تحصيله.
ثم أمر فتيانه أن يضعوا بضاعتهم وهي ما جاءوا به يتعوضون به عن الميرة في أمتعتهم، من حيث لا يشعرون بها.
{ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } قيل: أراد أن يردوها إذا وجدوها في بلادهم، وقيل: خشي أن لا يكون عندهم ما يرجعون به مرة ثانية، وقيل: تذمم أن يأخذ منهم عوضًا عن الميرة.
وقد اختلف المفسرون في بضاعتهم على أقوال سيأتي ذكرها.
وعند أهل الكتاب: أنها كانت صررًا من ورق وهو أشبه والله أعلم.
{ فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَاأَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ * قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَاأَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ * قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ * وَقَالَ يَابَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ * وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } [يوسف: 63-68] .
يذكر تعالى ما كان من أمرهم بعد رجوعهم إلى أبيهم، وقولهم له: { مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ } أي: بعد عامنا هذا إن لم ترسل معنا أخانا، فإن أرسلته معنا لم يمنع منا.
{ وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَاأَبَانَا مَا نَبْغِي } أي: أي شيء نريد وقد ردت إلينا بضاعتنا.
{ وَنَمِيرُ أَهْلَنَا } أي: نمتار لهم، ونأتيهم بما يصلحهم في سنتهم، ومحلهم
{ وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ } بسببه.
{ كَيْلَ بَعِيرٍ } قال الله تعالى: { ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ } أي: في مقابلة ذهاب ولده الآخر. وكان يعقوب عليه السلام أضن شيء بولده بنيامين لأنه كان يشم فيه رائحة أخيه، ويتسلى به عنه، ويتعوض بسببه منه.
فلهذا قال: { لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ } أي: إلا أن تغلبوا كلكم عن الإتيان به.
{ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } أكَّد المواثيق، وقرر العهود، واحتاط لنفسه في ولده، ولن يغني حذر من قدر. ولولا حاجته وحاجة قومه إلى الميرة، لما بعث الولد العزيز، ولكن الأقدار لها أحكام، والرب تعالى يقدر ما يشاء، ويختار ما يريد، ويحكم ما يشاء، وهو الحكيم العليم.
ثم أمرهم أن لا يدخلوا المدينة من باب واحد، ولكن ليدخلوا من أبواب متفرقة، قيل: أراد أن لا يصيبهم أحد بالعين، وذلك لأنهم كانوا أشكالًا حسنة، وصورًا بديعة، قاله ابن عباس، ومجاهد، ومحمد بن كعب، وقتادة، والسدي، والضحاك.
وقيل: أراد أن يتفرقوا لعلهم يجدون خبرًا ليوسف، أو يحدثون عنه بأثر، قاله إبراهيم النخعي، والأول أظهر. ولهذا قال: { وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ }.
وقال تعالى: { وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ }.
وعند أهل الكتاب: أنه بعث معهم هدية إلى العزيز من الفستق، واللوز، والصنوبر، والبطم، والعسل، وأخذوا الدراهم الأولى، وعوضًا آخر
{ وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ * قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ * قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ * قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ * قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ * قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ * فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ * قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ * قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ * قَالُوا يَاأَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ } [يوسف: 69-79] .
يذكر تعالى ما كان من أمرهم حين دخلوا بأخيهم بنيامين على شقيقه يوسف، وإيوائه إليه وإخباره له سرًا عنهم بأنه أخوه، وأمره بكتم ذلك عنهم، وسلاه عما كان منهم من الإساءة إليه،
ثم احتال على أخذه منهم، وتركه إياه عنده دونهم، فأمر فتيانه بوضع سقايته - وهي التي كان يشرب بها، ويكيل بها للناس الطعام عن غرته -في متاع بنيامين، ثم أعلمهم بأنهم قد سرقوا صواع الملك، ووعدهم جعالة على رده حمل بعير، وضمنه المنادي لهم، فأقبلوا على من اتهمهم بذلك، فأنَّبوه وهجنوه فيما قاله لهم.
و { قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ } يقولون: أنتم تعلمون منا خلاف ما رميتمونا به من السرقة.
{ قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ * قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ } وهذه كانت شريعتهم أن السارق يدفع إلى المسروق منه، ولهذا قالوا: { كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ }.
قال الله تعالى: فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ } ليكون ذلك أبعد للتهمه وأبلغ في الحيلة.
ثم قال الله تعالى: { كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ } أي: لولا اعترافهم بأن جزاءه من وجد في رحله فهو جزاؤه، لما كان يقدر يوسف على أخذه منهم في سياسة ملك مصر.
{ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ } أي: في العلم.
{ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } وذلك لأن يوسف كان أعلم منهم، وأتم رأيًا، وأقوى عزمًا وحزمًا، وإنما فعل ما فعل عن أمر الله له في ذلك، لأنه يترتب على هذا الأمر مصلحة عظيمة بعد ذلك، من قدوم أبيه وقومه عليه، ووفودهم إليه فلما عاينوا استخراج الصواع من حمل بنيامين
{ قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ } يعنون يوسف.
قيل: كان قد سرق صنم جده أبي أمه فكسره.
وقيل: كانت عمته قد علقت عليه بين ثيابه وهو صغير منطقة كانت لإسحاق ثم استخرجوها من بين ثيابه، وهو لا يشعر بما صنعت، وإنما أرادت أن يكون عندها وفي حضانتها لمحبتها له.
وقيل: كان يأخذ الطعام من البيت فيطعمه الفقراء.
وقيل: غير ذلك. فلهذا { قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ } وهي كلمته بعدها، وقوله: { أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ } أجابهم سرًا لا جهرًا، حلمًا وكرما وصفحًا وعفوًا فدخلوا معه في الترقق والتعطف.
فقالوا: { يَاأَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ } أي: إن أطلقنا المتهم، وأخذنا البريء هذا ما لا نفعله ولا نسمح به، وإنما نأخذ من وجدنا متاعنا عنده.
وعند أهل الكتاب أن يوسف تعرف إليهم حينئذ، وهذا مما غلطوا فيه ولم يفهموه جدًا.
{ فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ * ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَاأَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ * وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاأَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ * قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } [يوسف: 80-87] .
يقول تعالى مخبرًا عنهم أنهم لما استيأسوا من أخذه منه، خلصوا يتناجون فيما بينهم، قال كبيرهم - وهو روبيل - { أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ } لقد أخلفتم عهده وفرطتم فيه كما فرطتم في أخيه يوسف من قبله، فلم يبقَ لي وجه أقابله به.
{ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ } أي: لا أزال مقيمًا ههنا { حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي } في القدوم عليه، { أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي } بأن يقدرني على رد أخي إلى أبي { وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ }
{ ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَاأَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ } أي: أخبروه بما رأيتم من الأمر في ظاهر المشاهدة، { وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ * وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا } أي: فإن هذا الذي أخبرناك به من أخذهم أخانا لأنه سرق أمر اشتهر بمصر وعلمه العير التي كنا نحن وهم هناك { وَإِنَّا لَصَادِقُونَ }.
{ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } أي: ليس الأمر كما ذكرتم، لم يسرق فإنه ليس سجية له ولا هو خلقه، وإنما سولت لكم أنفسكم أمرًا فصبر جميل.
قال ابن إسحاق وغيره: لما كان التفريط منهم في بنيامين مترتبًا على صنيعهم في يوسف قال لهم ما قال، وهذا كما قال بعض السلف: إن من جزاء السيئة السيئة بعدها، ثم قال: { عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا } يعني: يوسف وبنيامين وروبيل.
{ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ } أي: بحالي وما أنا فيه من فراق الأحبة.
{ الْحَكِيمُ } فيما يقدره ويفعله، وله الحكمة البالغة والحجة القاطعة.
{ وَتَوَلَّى عَنْهُمْ } أي: أعرض عن بنيه
{ وَقَالَ يَاأَسَفَى عَلَى يُوسُفَ } ذكّره حزنه الجديد بالحزن القديم، وحرك ما كان كامنًا كما قال بعضهم:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى * ما الحب إلا للحبيب الأول
وقال آخر:
لقد لامني عند القبور على البكا * رفيقي لتذراف الدموع السوافك
فقال أتبكي كل قبر رأيته * لقبر ثوى بين اللوى فالدكادك
فقلت له إن الأسى يبعث الأسى * فدعني فهذا كله قبر مالك
وقوله: { وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ } أي: من كثرة البكاء.
{ فَهُوَ كَظِيمٌ } أي: مكظم من كثرة حزنه وأسفه وشوقه إلى يوسف، فلما رأى بنوه ما يقاسيه من الوجد وألم الفراق
{ قَالُوا } له على وجه الرحمة له والرأفة به والحرص عليه
{ تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ } يقولون: لا تزال تتذكره حتى تنحل جسدك، وتضعف قوتك، فلو رفقت بنفسك كان أولى بك.
{ قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } يقول لبنيه: لست أشكو إليكم ولا إلى أحد من الناس ما أنا فيه، إنما أشكو إلى الله عز وجل وأعلم أن الله سيجعل لي مما أنا فيه فرجًا ومخرجًا، وأعلم أن رؤيا يوسف لا بد أن تقع، ولا بد أن أسجد له أنا وأنتم حسب ما رأى.
ولهذا قال: { وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } ثم قال لهم محرضًا على تطلب يوسف وأخيه، وأن يبحثوا عن أمرهما: { يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } أي: لا تيئسوا من الفرج بعد الشدة، فإنه لا ييأس من روح الله وفرجه وما يقدره من المخرج في المضايق إلا القوم الكافرون.
{ فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَاأَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ * قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ * قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ * قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ } [يوسف: 88-93] .
يخبر تعالى عن رجوع إخوة يوسف إليه، وقدومهم عليه، ورغبتهم فيما لديه من الميرة والصدقة عليهم رد أخيهم بنيامين إليهم { فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَاأَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ } أي: من الجدب وضيق الحال وكثرة العيال.
{ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ } أي: ضعيفة لا يقبل مثلها منا إلا أن يتجاوز عنا، قيل: كانت دراهم رديئة. وقيل: قليلة. وقيل: حب الصنوبر وحب البطم ونحو ذلك. وعن ابن عباس: كانت خلق الغرائر والحبال ونحو ذلك.
{ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ }. قيل: بقبولها قاله السدي. وقيل: برد أخينا إلينا قاله ابن جريج. وقال سفيان بن عيينة: إنما حرمت الصدقة على نبينا محمد ﷺ ونزع بهذه الآية. رواه ابن جرير.
فلما رأى ما هم فيه من الحال، وما جاؤوا به مما لم يبق عندهم سواه من ضعيف المال، تعرف إليهم وعطف عليهم قائلًا لهم عن أمر ربه وربهم.
وقد حسر لهم عن جبينه الشريف وما يحويه من الخال فيه الذي يعرفون { هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ }.
{ قَالُوا } وتعجبوا كل العجب، وقد ترددوا إليه مرارًا عديدة وهم لا يعرفون أنه هو.
{ أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي } يعني: أنا يوسف الذي صنعتم معه ما صنعتم، وسلف من أمركم فيه ما فرطتم. وقوله { وَهَذَا أَخِي } تأكيد لما قال، وتنبيه على ما كانوا أضمروا لهما من الحسد، وعملوا في أمرهما من الاحتيال.
ولهذا قال: { قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا } أي: بإحسانه إلينا، وصدقته علينا وإيوائه لنا، وشده معاقد عزنا، وذلك بما أسلفنا من طاعة ربنا وصبرنا على ما كان منكم إلينا، وطاعتنا وبرنا لأبينا ومحبته الشديدة لنا، وشفقته علينا.
{ إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا } أي: فضلك وأعطاك ما لم يعطنا.
{ وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ } أي: فيما أسدينا إليك وها نحن بين يديك.
{ قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ } أي: لست أعاقبكم على ما كان منكم بعد يومكم هذا، ثم زادهم على ذلك فقال: { الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ }
ومن زعم أن الوقف على قوله: { لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ } وابتدأ بقوله اليوم يغفر الله لكم، فقوله ضعيف والصحيح الأول. ثم أمرهم بأن يذهبوا بقميصه وهو الذي يلي جسده، فيضعوه على عيني أبيه فإنه يرجع إليه بصره بعد ما كان ذهب بإذن الله، وهذا من خوارق العادات ودلائل النبوات، وأكبر المعجزات.
ثم أمرهم أن يتحملوا بأهلهم أجمعين إلى ديار مصر إلى الخير والدعة وجمع الشمل بعد الفرقة على أكمل الوجوه وأعلى الأمور.
{ وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ * قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ * فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * قَالُوا يَاأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [يوسف: 94-98] .
قال عبد الرزاق: أنبأنا إسرائيل عن أبي سنان، عن عبد الله بن أبي الهذيل سمعت ابن عباس يقول: فلما فصلت العير قال: لما خرجت العير هاجت ريح فجاءت يعقوب بريح قميص يوسف فقال: { إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ } قال فوجد ريحه من مسيرة ثمانية أيام، وكذا رواه الثوري، وشعبة وغيرهم عن أبي سنان به.
وقال الحسن البصري، وابن جريج المكي: كان بينهما مسيرة ثمانين فرسخًا، وكان له منذ فارقه ثمانون سنة.
وقوله: { لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ } أي: تقولون إنما قلت هذا من الفند وهو الخرف وكبر السن.
قال ابن عباس، وعطاء، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة: تفندون: تسفهون.
وقال مجاهد أيضًا، والحسن: تهرمون.
{ قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ } قال قتادة، والسدي: قالوا له كلمة غليظة. قال الله تعالى: { فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا } أي: بمجرد ما جاء ألقى القميص على وجه يعقوب فرجع من فوره بصيرًا بعد ما كان ضريرًا، وقال لبنيه عند ذلك: { أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } أي: أعلم أن الله سيجمع شملي بيوسف، وستقر عيني به وسيريني فيه ومنه ما يسرني.
فعند ذلك { قَالُوا يَاأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ } طلبوا منه أن يستغفر لهم الله عز وجل عما كانوا فعلوا، ونالوا منه ومن ابنه وما كانوا عزموا عليه، ولما كان من نيتهم التوبة قبل الفعل، وفقهم الله للاستغفار عند وقوع ذلك منهم، فأجابهم أبوهم إلى ما سألوا وما عليه عولوا قائلًا: { سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }
قال ابن مسعود، وإبراهيم التيمي، وعمرو بن قيس، وابن جريج وغيرهم: أرجأهم إلى وقت السحر.
قال ابن جرير: حدثني أبو السائب، حدثنا ابن إدريس، سمعت عبد الرحمن بن إسحاق يذكر عن محارب بن دثار قال: كان عمر يأتي المسجد فسمع إنسانا يقول: اللهم دعوتني فأجبت، وأمرتني فأطعت وهذا السحر فاغفر لي، قال: فاستمع الصوت فإذا هو من دار عبد الله بن مسعود، فسأل عبد الله عن ذلك فقال: إن يعقوب أخرّ بنيه إلى السحر بقوله: { سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي }
وقد قال الله تعالى: { وَالْمُسْتَغْفِرِيْنَ بِالْأَسْحَارِ } [آل عمران: 17] وثبت في الصحيحن عن رسول الله ﷺ قال:
« ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا فيقول: هل من تائب فأتوب عليه، هل من سائل فأعطيه، هل من مستغفر فأغفر له ».
وقد ورد في حديث أن يعقوب أرجأ بنيه إلى ليلة الجمعة.
قال ابن جرير، حدثني المثنى، ثنا سليمان بن عبد الرحمن بن أيوب الدمشقي، حدثنا الوليد، أنبأنا ابن جريج، عن عطاء وعكرمة، عن ابن عباس عن رسول الله ﷺ:
« { سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي } يقول: حتى تأتي ليلة الجمعة، وهو قول أخي يعقوب لبنيه ».
وهذا غريب من هذا الوجه.
وفي رفعه نظر والأشبه أن يكون موقوفًا على ابن عباس رضي الله عنه.
{ فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ * وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } [يوسف: 99-101] .
هذا إخبار عن حال اجتماع المتحابين بعد الفرقة الطويلة، التي قيل أنها ثمانون سنة، وقيل: ثلاثة وثمانون سنة، وهما روايتان عن الحسن. وقيل: خمس وثلاثون سنة، قاله قتادة. وقال محمد بن إسحاق: ذكروا أنه غاب عنه ثماني عشرة سنة. قال وأهل الكتاب يزعمون أنه غاب عنه أربعين سنة.
وظاهر سياق القصة يرشد إلى تحديد المدة تقريبًا فإن المرأة راودته وهو شاب ابن سبع عشرة سنة، فيما قاله غير واحد فامتنع، فكان في السجن بضع سنين، وهي سبع عند عكرمة وغيره، ثم أخرج فكانت سنوات الخصب السبع، ثم لما أمحل الناس في السبع البواقي جاء إخوتهم يمتارون في السنة الأولى وحدهم، وفي الثانية ومعهم أخوه بنيامين، وفي الثالثة تعرف إليهم وأمرهم بإحضار أهلهم أجمعين، فجاءوا كلهم.
{ فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ } اجتمع بها خصوصًا وحدهما دون إخوته. { وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ } قيل هذا من المقدم والمؤخر تقديره: ادخلوا مصر وآوى إليه أبويه. وضعفه ابن جرير وهو معذور.
قيل: تلقاهما وآواهما في منزل الخيام، ثم لما اقتربوا من باب مصر { وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ } قاله السدي. ولو قيل إن الأمر لا يحتاج إلى هذا أيضًا، وأنه ضمن قوله ادخلوا معنى اسكنوا مصر أو أقيموا بها، { إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ } لكان صحيحًا مليحًا أيضًا.
وعند أهل الكتاب: أن يعقوب لما وصل إلى أرض جاشر، وهي أرض بلبيس، خرج يوسف لتلقيه وكان يعقوب قد بعث ابنه يهوذا بين يديه مبشرًا بقدومه، وعندهم أن الملك أطلق لهم أرض جاشر يكونون فيها ويقيمون بها بنعمهم ومواشيهم.
وقد ذكر جماعة من المفسرين أنه لما أزف قدوم نبي الله يعقوب، وهو إسرائيل، أراد يوسف أن يخرج لتلقيه فركب معه الملك وجنوده خدمة ليوسف، وتعظيمًا لنبي الله إسرائيل، وأنه دعا للملك وأن الله رفع عن أهل مصر بقية سني الجدب ببركة قدومه إليهم، فالله أعلم.
وكان جملة من قدم مع يعقوب من بنيه وأولادهم، فيما قاله أبي إسحاق السبيعي عن أبي عبيدة عن ابن مسعود ثلاثة وستين إنسانًا.
وقال موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب عن عبد الله بن شداد: كانوا ثلاثة وثمانين إنسانًا.
وقال أبو إسحاق عن مسروق: دخلوا وهم ثلاثمائة وتسعون إنسانًا.
قالوا: وخرجوا مع موسى وهم أزيد من ستمائة ألف مقاتل. وفي نص أهل الكتاب أنهم كانوا سبعين نفسًا وسموهم.
قال الله تعالى: { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ } قيل: كانت أمه قد ماتت كما هو عند علماء التوراة.
وقال بعض المفسرين: فأحياها الله تعالى. وقال آخرون: بل كانت خالته ليا، والخالة بمنزلة الأم.
وقال ابن جرير وآخرون: بل ظاهر القرآن يقتضي بقاء حياة أمه إلى يومئذ، فلا يعول على نقل أهل الكتاب فيما خالفه، وهذا قوي والله أعلم.
ورفعهما على العرش أي: أجلسهما معه على سريره.
{ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا } أي: سجده له الأبوان، والاخوة الأحد عشر، تعظيمًا وتكريمًا وكان هذا مشروعًا لهم، ولم يزل ذلك معمولًا به في سائر الشرائع، حتى حرم في ملتنا.
{ وَقَالَ يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ } أي: هذا تعبير ما كنت قصصته عليك من رؤيتي الأحد عشر كوكبًا، والشمس والقمر حين رأيتهم لي ساجدين، وأمرتني بكتمانها، ووعدتني ما وعدتني عند ذلك.
{ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ } أي: بعد الهم والضيق جعلني حاكمًا نافذ الكلمة في الديار المصرية حيث شئت.
{ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ } أي: البادية، وكانوا يسكنون أرض العربات من بلاد الخليل.
{ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي } أي: فيما كان منهم إلي من الأمر الذي تقدم وسبق ذكره.
ثم قال: { إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ } أي: إذا أراد شيئًا هيأ أسبابه ويسرها، وسهلها من وجوه لا يهتدي إليها العباد، بل يقدرها وييسرها بلطيف صنعه، وعظيم قدرته.
{ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ } أي: بجميع الأمور.
{ الْحَكِيمُ } في خلقه وشرعه وقدره.
وعند أهل الكتاب: أن يوسف باع أهل مصر وغيرهم من الطعام الذي كان تحت يده بأموالهم كلها من الذهب، والفضة، والعقار، والأثاث، وما يملكونه كله حتى باعهم بأنفسهم فصاروا أرقاء، ثم أطلق لهم أرضهم، وأعتق رقابهم، على أن يعملوا ويكون خمس ما يشتغلون من زرعهم وثمارهم للملك، فصارت سنة أهل مصر بعده.
وحكى الثعلبي: أنه كان لا يشبع في تلك السنين حتى لا ينسى الجيعان، وأنه إنما كان يأكل أكلة واحدة نصف النهار، قال: فمن ثم اقتدى به الملوك في ذلك. قلت: وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا يشبع بطنه عام الرمادة، حتى ذهب الجدب وأتى الخصب.
قال الشافعي: قال رجل من الأعراب لعمر بعد ما ذهب عام الرمادة: لقد انجلت عنك وإنك لابن حرة.
ثم لما رأى يوسف عليه السلام نعمته قد تمت، وشمله قد اجتمع، عرف أن هذه الدار لا يقربها قرار، وأن كل شيء فيها ومن عليها فان، وما بعد التمام إلا النقصان، فعند ذلك أثنى على ربه بما هو أهله، واعترف له بعظيم إحسانه وفضله، وسأل منه - وهو خير المسؤولين - أن يتوفاه، أي: حين يتوفاه على الإسلام، وأن يلحقه بعباده الصالحين، وهكذا كما يقال في الدعاء: اللهم أحينا مسلمين، وتوفنا مسلمين، أي: حين تتوفانا.
ويحتمل أنه سأل ذلك عند احتضاره عليه السلام، كما سأل النبي ﷺ عند احتضاره أن يرفع روحه إلى الملأ الأعلى، والرفقاء الصالحين من النبيين والمرسلين، كما قال:
« اللهم في الرفيق الأعلى »، ثلاثًا ثم قضى.
ويحتمل أن يوسف عليه السلام سأل الوفاة على الإسلام منجزًا في صحة بدنه وسلامته، وأن ذلك كان سائغًا في ملتهم وشرعتهم، كما روي عن ابن عباس أنه قال: ما تمنى نبي قط الموت قبل يوسف.
فأما في شريعتنا: فقد نهي عن الدعاء بالموت إلا عند الفتن، كما في حديث معاذ في الدعاء الذي رواه أحمد:
« وإذا أردت بقوم فتنة فتوفنا إليك غير مفتونين ».
وفي الحديث الآخر: « ابن آدم الموت خير لك من الفتنة ». وقالت مريم عليها السلام: { يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا } [مريم: 23] .
وتمنى الموت علي بن أبي طالب لما تفاقمت الأمور، وعظمت الفتن، واشتد القتال، وكثر القيل والقال، وتمنى ذلك البخاري أبو عبد الله صاحب الصحيح لما اشتد عليه الحال، ولقي من مخالفيه الأهوال.
فأما في حال الرفاهية فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله ﷺ:
« لا يتمنى أحدكم الموت لضر نزل به، إما محسنًا فيزداد، وإما مسيئًا فلعله يستعتب، ولكن ليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي ».
والمراد بالضر ههنا: ما يخص العبد في بدنه من مرض ونحوه، لا في دينه، والظاهر أن نبي الله يوسف عليه السلام سأل ذلك إما عند احتضاره، أو إذا كان ذلك أن يكون كذلك.
وقد ذكر ابن إسحاق عن أهل الكتاب: أن يعقوب أقام بديار مصر عند يوسف سبع عشرة سنة، ثم توفي عليه السلام وكان قد أوصى إلى يوسف عليه السلام أن يدفن عند أبويه إبراهيم وإسحاق.
قال السدي: فصبر وسيره إلى بلاد الشام، فدفنه بالمنارة عند أبيه إسحاق وجده الخليل عليهم السلام.
وعند أهل الكتاب: أن عمر يعقوب يوم دخل مصر مائة وثلاثون سنة، وعندهم: أنه أقام بأرض مصر سبع عشرة سنة، ومع هذا قالوا فكان جميع عمره مائة وأربعين سنة. هذا نص كتابهم وهو غلط، إما في النسخة أو منهم، أو قد أسقطوا الكسر، وليس بعادتهم فيما هو أكثر من هذا، فكيف يستعملون هذه الطريقة ههنا.
وقد قال تعالى في كتابه العزيز: { أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [البقرة: 133] يوصي بنيه بالإخلاص، وهو دين الإسلام الذي بعث الله به الأنبياء عليهم السلام.
وقد ذكر أهل الكتاب: أنه أوصى بنيه واحدًا واحدًا وأخبرهم بما يكون من أمرهم، وبشَّر يهوذا بخروج نبي عظيم من نسله، تطيعه الشعوب، وهو عيسى بن مريم، والله أعلم.
وذكروا: أنه لما مات يعقوب بكى عليه أهل مصر سبعين يومًا، وأمر يوسف الأطباء فطيبوه بطيب ومكث فيه أربعين يومًا، ثم استأذن يوسف ملك مصر في الخروج مع أبيه، ليدفنه عند أهله فأذن له، وخرج معه أكابر مصر وشيوخها، فلما وصلوا حبرون دفنوه في المغارة التي كان اشتراها إبراهيم الخليل من عفرون بن صخر الحيثي، وعملوا له عزاء سبعة أيام.
قالوا: ثم رجعوا إلى بلادهم، وعزَّى إخوة يوسف ليوسف في أبيهم، وترققوا له، فأكرمهم وأحسن منقلبهم، فأقاموا ببلاد مصر.
ثم حضرت يوسف عليه السلام الوفاة، فأوصى أن يحمل معهم إذا خرجوا من مصر فيدفن عند آبائه، فحنطوه ووضعوه في تابوت، فكان بمصر حتى أخرجه معه موسى عليه السلام فدفنه عند آبائه كما سيأتي.
قالوا: فمات وهو ابن مائة سنة وعشر سنين، هذا نصهم فيما رأيته، وفيما حكاه ابن جرير أيضًا.
وقال مبارك بن فضالة عن الحسن: ألقي يوسف في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة، وغاب عن أبيه ثمانين سنة، وعاش بعد ذلك ثلاثًا وعشرين سنة، ومات وهو ابن مائة سنة وعشرين سنة. وقال غيره: أوصى إلى أخيه يهوذا صلوات الله عليه وسلامه. 
===========

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مدوناتي نقابة نقابة72/////

[قصة نبي الله أيوب] من كتاب البداية والنهاية الجزء الاول لابن كثير

البداية والنهاية/الجزء الأول/قصة نبي الله أيوب     1- قصة نبي الله أيوب      قال ابن إسحاق: كان رجلًا من الروم وهو أيوب بن موص بن زارح بن ال...